تكتب بلستيا العقاد عن عالم يبدو واسعًا في الظاهر، لكنه يضيق على الفلسطيني حتى يصبح بحجم فتات من أرض تحاصرها الجدران والخوف. تعيش تجربة الانكماش هذه في كل مكان، سواء بقيت داخل غزة أو خرجت منها، إذ تلاحقها القيود والرفض والنظرات المرتابة. ومع تمدد النزاعات، وتبدد الموارد في مشاريع عبثية تفتقر للحكمة، تتدهور أوضاع الفرد الاقتصادية ويقوى التضخم الذي يطارد الناس في لقمة عيشهم اليومية.

 

نقلت صحيفة الجارديان البريطانية هذه الشهادة الإنسانية الصادمة، حيث يتبيّن كيف تصنع السياسات العمياء والجشع وسوء الأولويات واقعًا اقتصاديًا خانقًا. ويتعمق التضخم حين تُهدر الأموال على مشاريع استعراضية لا تدعم الإنسان ولا تحفظ كرامته، فيدفع المواطن الثمن من استقراره وكرامته.

 

الهوية كحاجز غير مرئي

 

تروي الكاتبة كيف يحدّق موظفو المطارات في جواز سفرها الفلسطيني وكأنه وثيقة غريبة من كوكب آخر. يتردد السؤال في العيون قبل الألسنة: كيف نعترف بهذه الهوية؟ كيف نفتح لهذا الإنسان بابًا؟ يرفض العالم الفلسطيني حيًا، ويستقبله ضحية فقط. يشارك الناس صوره تحت الركام، لكنهم يترددون حين يراه يقف على أقدامه ويطلب حياة طبيعية خلف حدودهم.

 

يرتبط هذا التناقض أيضًا بالسياسات الاقتصادية غير المتزنة. تُنفق الحكومات أموالًا طائلة على مشاريع تستنزف الموارد بدل توجيهها نحو الإنسان والتعليم والصحة. ومع كل خطوة طائشة، يتراجع مستوى المعيشة ويتسارع التضخم، ويصبح العبور من بلد إلى بلد امتيازًا طبقيًا لا حقًا إنسانيًا.

 

غزة.. حين يصغر الشتاء ويكبر الألم

 

تتذكر بلستيا شتاء غزة الدافئ قديمًا؛ المدفأة، كوب الشاي، دفء العائلة. ثم تقارن ذلك بحاضر قاسٍ، حيث تجتاح الأمطار خيامًا مهترئة، وترتعش أجساد أطفال بلا أحذية ولا بطانيات. يضيق المكان، وتضيق معه الحياة، حتى تبدو السماء أقرب إلى سقف منخفض يخنق الهواء.

 

وفي الخلفية، يتواصل النزيف الاقتصادي. تُصاغ قرارات تنموية بلا رؤية، وتُنفّذ مشاريع عبثية بحجة التقدم، فتزداد الأسعار، وتتآكل القدرة الشرائية، ويغرق المواطن أكثر في القلق. يختنق الأمل حين يصبح الغلاء نتيجة مباشرة لسوء التدبير وغياب الضمير.

 

بين الداخل والخارج.. سجن بأشكال مختلفة

 

تحمل الكاتبة في داخلها سؤالًا مريرًا: أين يذهب الفلسطيني؟ تطرده حدوده وتغلق الأبواب في وجهه خارجها. يعيش منفى داخل الوطن، ومنفى خارجه. تتحول هويته إلى خطر مفترض، بينما يغيب الخطر الحقيقي في آلة الحرب والظلم والسياسات العابثة.

 

يتعمق هذا الشعور حين تُهدَر الموارد في صراعات ومشاريع استنزافية بدل بنائها في الاقتصاد الحقيقي. يتسع التضخم، ويتراجع الأمن الاقتصادي للفرد، وتصبح الحياة معادلة مستحيلة بين نفقات متصاعدة ودخول متآكلة. وهكذا يضيق العالم أكثر، ليس فقط جغرافيًا، بل اقتصاديًا وروحيًا.

 

تنهي بلستيا تأملها بسؤال شعري موجع مستلهم من محمود درويش: إلى أين تطير الطيور بعد آخر سماء؟ سؤال بلا جواب، لكنه يحمل في داخله حقيقة مرة: حين تُحاصر الهوية، ويُخنق الاقتصاد، ويُساء استخدام القوة والمال، لا يبقى للإنسان سوى صوته… وصدى ظله على جدار العالم.

 

https://www.theguardian.com/commentisfree/2025/dec/07/plestia-alaqad-trapped-inside-gaza-world-shrinking-palestinians